فصل: (سورة النساء: الآيات 145- 146):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة النساء: آية 144]:

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطانًا مُبِينًا (144)}
لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ لا تتشبهوا بالمنافقين في اتخاذهم اليهود وغيرهم من أعداء الإسلام أولياء سُلْطانًا حجة بينة، يعنى أن موالاة الكافرين بينة على النفاق. وعن صعصعة ابن صوحان أنه قال لابن أخ له: خالص المؤمن، وخالق الكافر والفاجر فان الفاجر يرضى منك بالخلق الحسن، وإنه يحق عليك أن تخالص المؤمن.

.[سورة النساء: الآيات 145- 146]:

{إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)}
الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ الطبق الذي في قعر جهنم، والنار سبع دركات، سميت بذلك لأنها متداركة متتابعة بعضها فوق بعض، وقرئ بسكون الراء، والوجه التحريك، لقولهم: أدراك جهنم. فإن قلت: لِمَ كان المنافق أشدّ عذابا من الكافر؟ قلت لأنه مثله في الكفر، وضم إلى كفره الاستهزاء بالإسلام وأهله ومداجاتهم وَأَصْلَحُوا ما أفسدوا من أسرارهم وأحوالهم في حال النفاق وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ ووثقوا به كما يثق المؤمنون الخلص وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ لا يبتغون بطاعتهم إلا وجهه فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ فهم أصحاب المؤمنين ورفقاؤهم في الدارين وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا فيشاركونهم فيه ويساهمونهم. فإن قلت: مَن المنافق؟
قلت. هو في الشريعة من أظهر الإيمان وأبطن الكفر. وأمّا تسمية من ارتكب ما يفسق به بالمنافق فللتغليظ، كقوله «من ترك الصلاة متعمدًا فقد كفر» ومنه قوله عليه الصلاة والسلام «ثلاث من كنّ فيه فهو منافق، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: من إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» وقيل لحذيفة رضى اللَّه عنه: مَن المنافق؟ فقال: الذي يصف الإسلام ولا يعمل به. وقيل لابن عمر: ندخل على السلطان ونتكلم بكلام فإذا خرجنا تكلمنا بخلافه فقال: كنا نعدّه من النفاق. وعن الحسن: أتى على النفاق زمان وهو مقروع فيه، فأصبح وقد عمم وقلد وأعطى سيفًا، يعنى الحجاج.

.[سورة النساء: آية 147]:

{ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِرًا عَلِيمًا (147)}
ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ أيتشفى به من الغيظ، أم يدرك به الثار، أم يستجلب به نفعًا، أم يستدفع به ضررًا كما يفعل الملوك بعذابهم، وهو الغنىّ الذي لا يجوز عليه شيء من ذلك. وإنما هو أمر أوجبته الحكمة أن يعاقب المسيء، فإن قمتم بشكر نعمته وآمنتم به فقد أبعدتم عن أنفسكم استحقاق العذاب وَكانَ اللَّهُ شاكِرًا مثيبا موفيا أجوركم عَلِيمًا بحق شكركم وإيمانكم. فإن قلت: لم قدم الشكر على الإيمان؟ قلت: لأن العاقل ينظر إلى ما عليه من النعمة العظيمة في خلقه وتعريضه للمنافع، فيشكر شكرًا مبهما، فإذا انتهى به النظر إلى معرفة المنعم آمن به ثم شكر شكرًا مفصلا، فكان الشكر متقدما على الايمان، وكأنه أصل التكليف ومداره. اهـ.

.قال سيد قطب في الآيات السابقة:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)} إلى قوله تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)}
هذا الدرس حلقة من سلسلة التربية المنهجية، التي تولتها يد الرعاية الإلهية؛ لإخراج الأمة التي قال الله فيها: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} وهي حلقة من المنهج الثابت المطرد الخطو، المرسوم الأهداف لمعالجة النفس البشرية بالدواء الذي صنعه صانع هذه النفس سبحانه الخبير بدروبها ومنحنياتها، البصير بطبيعتها وحقيقتها، العليم بضروراتها وأشواقها، وبمقدراتها وطاقاتها.
وهذه الحلقة كما ترسم قواعد المنهج واتجاهاته الثابتة، الموضوعة للناس جميعًا، في أجيالهم كلها، لترفعهم من سفوح الجاهلية- حسب مكانهم في الدرج- وتعرج بهم في المرتقى الصاعد، إلى القمة السامقة.. هي كذلك- في الوقت ذاته- ترتسم فيها حال الجماعة المسلمة الأولى، المخاطبة بهذا القرآن؛ وتبرز من بين السطور صورة لهذة الجماعة إذ ذاك- كما هي- بكل ما فيها من بشرية. وبكل ما في بشريتها من ضعف وقوة؛ ومن رواسب جاهلية ومشاعر فطرية.. وتبرز كذلك طريقة المنهج في علاجها وتقويتها وتثبيتها على الحق الذي تمثله؛ بكل ما في وقفتها مع الحق من جهد وتضحية.
ويبدأ الدرس بنداء الجماعة المؤمنة إلى النهوض بتكاليف دورها، في إقامة العدل بين الناس على النحو الفريد الذي لم يقم إلا على يد هذه الجماعة- العدل الذي تتعامل فيه الجماعة مع الله مباشرة؛ متخلصة من كل عاطفة أو هوى أو مصلحة- بما في ذلك ما يسمى مصلحة الجماعة أو الأمة أو الدولة!- متجردة من كل اعتبار آخر غير تقوى الله ومرضاته.. العدل الذي رأينا نموذجًا منه في الدرس العملي الذي ألقاه الله سبحانه بذاته العلية على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الجماعة المسلمة في حادث اليهودي الذي سلف ذكره.
يبدأ الدرس بنداء الذين آمنوا ليقيموا هذا العدل.. بصورته هذه.. ومنزل هذا القرآن يعلم حقيقة المجاهدة الشاقة، التي تتكلفها إقامة العدل على هذا النحو. وفي النفس البشرية ضعفها المعروف، وعواطفها تجاه ذاتها وتجاه الأقارب؛ وتجاه الضعاف من المتقاضين وتجاه الأقوياء أيضًا. تجاه الوالدين والأقربين، وتجاه الفقير والغني؛ تجاه المودة وتجاه الشنآن.. ويعلم أن التجرد من هذا كله يحتاج إلى جهاد شاق. جهاد للصعود إلى هذه القمة على سفوح ملساء! لا تتعلق فيها النفس بشيء إلا بحبل الله.
ثم يدعوهم دعوة ثانية إلى الإيمان بعناصر الإيمان الشامل. بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. ولكل عنصر من هذه العناصر قيمته في تكوين العقيدة الإيمانية؛ وقيمته في تكوين التصور الإسلامي، المتفوق على جميع التصورات الأخرى، التي عرفتها البشرية- قبل الإسلام وبعده- وهو ذاته التفوق الذي انبعث منه كل تفوق آخر أخلاقي أو اجتماعي أو تنظيمي، في حياة الجماعة المسلمة الأولى.
والذي يحمل عنصر التفوق دائمًا لكل جماعة تؤمن به حقًا وتعمل بمقتضياته كاملة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. حيث تحق كلمة الله- في هذا الدرس نفسه- {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلًا}.
وبعد هذين النداءين يأخذ السياق في حملة منوعة الأساليب على المنافقين- من بقي منهم على حالة النفاق، ومن أعلن كفره بعد إعلان إسلامه- حملة يصور فيها طبيعة المنافقين، ويرسم لهم فيها صورًا زرية، من واقع ما يقومون به في الصف المسلم؛ ومن واقع مواقفهم المتلونة حسب الظروف. وهم يلقون المسلمين- إذا انتصروا- بالملق والنفاق. ويلقون الذين كفروا- إذا انتصروا كذلك- بدعواهم أنهم سبب انتصارهم! وهم يقومون للصلاة كسالى يراءون الناس. وهم مذبذبون بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء وترد في ثنايا هذه الحملة توجيهات للمؤمنين وتحذيرات. تدل على مدى ما كان لأفاعيل المنافقين في الصف المسلم- حينذاك- من آثار، وعلى مدى ضخامة الجبهة المنافقة وتغلغلها في حياة الجماعة المسلمة؛ مما استدعى هذه الحملة، مع مراعاة الواقع يومئذ، وأخذ المسلمين خطوة خطوة في الابتعاد عن المنافقين واجتنابهم. من ذلك أمرهم باجتناب مجالس المنافقين التي يتداولون فيها الكفر بآيات الله والاستهزاء بها. ولم يأمرهم- حينذاك- بمقاطعة المنافقين ألبتة. مما يدل على أن جبهة النفاق كانت ضخمة ومتغلغلة بصورة يصعب فيها على المسلمين مقاطعتهم!
كذلك ترد في ثناياها تحذيرات للمسلمين من سمات النفاق ومقدماته؛ كي لا يقعوا فيها. وأخصها موالاة الكافرين، وابتغاء العزة عندهم، والقوة بهم! وتأمينهم بأن العزة لله جميعًا، وبأن الله لن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلًا، وذلك مع رسم الصور البشعة للمنافقين في الدنيا وفي الآخرة. وتقرير أن مكانهم في الدرك الأسفل من النار.
وهذه التوجيهات والتحذيرات- بهذا الأسلوب- تشي بطريقة المنهج في علاج النفوس والأوضاع؛ وتغيير الواقع في حدود الطاقة والملابسات القائمة كذلك، حتى ينتهي إلى تغييره نهائيًا؛ وإقامة واقع آخر جديد. كما تشي بحالة الجماعة المسلمة حينذاك وموقفها من جبهة الكفر وجبهة النفاق المتعاونتين في حرب الجماعة المسلمة والدين الجديد.
ومن خلال هذه وتلك تتبين طبيعة المعركة التي كان القرآن يخوض بها الجماعة المسلمة، وطبيعة الأساليب المنهجية في قيادته للمعركة وللنفوس.. وهي المعركة الدائمة المتصلة بين الإسلام والجاهلية في كل زمان وكل مكان. وبين الجماعة المسلمة وأعدائها الذين تتغير أشخاصهم ووسائلهم ولكن لا تتغير طبيعتهم ومبادئهم.
ومن خلال هذا كله تبرز حقيقة هذا الكتاب.. القرآن.. ودوره في قيادة الأمة المسلمة. ليس بالأمس فقط- فما جاء ليقود جيلًا دون جيل. إنما جاء ليقود هذه الأمة، وليكون مرشدها وهاديها.
في جميع الأجيال والدهور.
وفي نهاية الدرس تجيء تلك اللفتة العجيبة إلى استغناء الله سبحانه عن تعذيب العباد.. فهو لا يطلب منهم إلا أن يؤمنوا ويشكروا، وهو سبحانه غني عن إيمانهم وشكرهم. ولكن ذلك إنما هو لصلاح حالهم، وارتقاء مستواهم؛ حتى يتأهلوا لحياة الآخرة، ومستوى النعيم في الجنة. فإذا هم ارتكسوا وانتكسوا فإنما يؤهلون أنفسهم لمستوى العذاب في الجحيم. حيث يسقط المنافقون إلى أحط الدركات {في الدرك الأسفل من النار}.
{يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيًا أو فقيرًا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا. وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرًا}.
إنه نداء للذين آمنوا. نداء لهم بصفتهم الجديدة. وهي صفتهم الفريدة. صفتهم التي بها أنشئوا نشأة أخرى؛ وولدوا ميلادًا آخر. ولدت أرواحهم، وولدت تصوراتهم، وولدت مبادئهم وأهدافهم، وولدت معهم المهمة الجديدة التي تناط بهم، والأمانة العظيمة التي وكلت إليهم.. أمانة القوامة على البشرية، والحكم بين الناس بالعدل.. ومن ثم كان للنداء بهذه الصفة قيمته وكان له معناه: {يا أيها الذين آمنوا...} فبسبب من اتصافهم بهذه الصفة، كان التكليف بهذه الأمانة الكبرى. وبسبب من اتصافهم بهذه الصفة كان التهيؤ والاستعداد للنهوض بهذه الأمانة الكبرى.
وهي لمسة من لمسات المنهج التربوي الحكيم؛ تسبق التكليف الشاق الثقيل:
{كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين. إن يكن غنيًا أو فقيرًا فالله أولى بهما}.
إنها أمانة القيام بالقسط.. بالقسط على إطلاقه. في كل حال وفي كل مجال. القسط الذي يمنع البغي والظلم- في الأرض- والذي يكفل العدل- بين الناس- والذي يعطي كل ذي حق حقه من المسلمين وغير المسلمين.. ففي هذا الحق يتساوى عند الله المؤمنون وغير المؤمنين- كما رأينا في قصة اليهودي- ويتساوى الأقارب والأباعد. ويتساوى الأصدقاء والأعداء. ويتساوى الأغنياء والفقراء.
{كونوا قوامين بالقسط شهداء لله}.
حسبة لله. وتعاملا مباشرًا معه. لا لحساب أحد من المشهود لهم أو عليهم. ولا لمصلحة فرد أو جماعة أو أمة. ولا تعاملًا مع الملابسات المحيطة بأي عنصر من عناصر القضية. ولكن شهادة لله، وتعاملًا مع الله. وتجردًا من كل ميل، ومن كل هوى، ومن كل مصلحة، ومن كل اعتبار.
{ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين}.